فصل: مسألة قبة النعش التي تصنع للنساء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة إمام جنازة صلى على جنازة متوضئا ورجل خلفه على غير وضوء:

وسئل ابن القاسم: عن إمام جنازة صلى على جنازة متوضئا- ورجل خلفه على غير وضوء، ثم ذكر قبل دفنها، أو بعدما دفنها. قال ابن القاسم: ليس عليه شيء، فصلاته مجزئة عنه.
قال محمد بن رشد: أما قوله ليس عليه شيء، فصحيح بيِّن؛ إذ لا يصلى على من قد صلي عليه، وقد مضى ذلك في رسم الجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب، وأما قوله فصلاته مجزئة عنه، فمعناه أنه ليس عليه إعادتها؛ إذ لا يصلى على من قد صلي عليه، وأن له أجر صلاته إذ لم يعلم بكونه على غير وضوء؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان، وعما استكرهوا عليه»؛ لأن صلاة الجنازة على غير وضوء تصح، فهو في صلاته على الجنازة بغير وضوء، كمن أوتر بغير وضوء فلم يعلم حتى صلى الصبح، فيقال: إنه يجزئه وتره، بمعنى أنه ليس عليه قضاؤه، وبالله التوفيق.

.مسألة إمام جنازة قهقه في صلاته:

وسئل: عن إمام جنازة قهقه في صلاته، هل عليه وعلى من خلفه إعادة الصلاة، وكيف به إن أحدث وليها؟ هل يجوز له أن يستخلف على ما بقي من الصلاة، أم يعيدون الصلاة؟ أم يمكثوا قياما حتى يذهب وليها- إن كان هو الإمام فيتوضأ ويرجع فيصلي بإعادة الصلاة؟ وكيف إن رعف فذهب يتوضأ، أله أن يستخلف من يتم بهم بقية صلاتهم؟ وكيف إن ذهب ولم يستخلف: كيف يصنع الناس، أيقدمون رجلا منهم؟ أم لا يحدثون شيئا حتى يرجع الولي أو الإمام؟ وكيف إن لم يكن لها ولي ولا إمام جماعة؟
قال ابن القاسم: لا نبالي كان لها وليا أو لم يكن لها وليا إن أحدث أو رعف، فينبغي أن يقدم رجلا ليتم بهم بقية الصلاة؛ وإن لم يقدم أحدا وانصرف وجهل ذلك، تقدم رجل فأتم بهم بقية صلاتهم؛ وأما الذي قهقه، فإنهم يقطعون جميعا ويبتدئون الصلاة من أولها؛ لأن الإمام قطعها، وكذلك لو أحدث متعمدا ابتدءوا الصلاة عليها.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على ما قاله؛ لأن الصلاة على الجنائز صلاة، فيقطعها ما يقطع الصلاة؛ ويجب على الإمام من الاستخلاف فيها ما يجب عليه من الاستخلاف في الصلاة.

.مسألة قوم جهلوا القبلة فصلوا على جنازتهم:

وسئل ابن القاسم: عن قوم جهلوا القبلة فصلوا على جنازتهم إلى غير القبلة، ثم علموا بذلك قبل دفنها، أو بعد دفنها؛ أيعيدون الصلاة عليها؟
قال ابن القاسم: إن دفنوها فلا شيء عليهم، وإن لم يدفنوها، فإني أستحسن أن يصلى عليها، ولست أرى ذلك عليهم بواجب.
قال محمد بن رشد: أشهب يرى إعادة الصلاة عليها ما لم تدفن، وسحنون لا يرى ذلك. واستحباب ابن القاسم أن تُعاد الصلاة عليها ما لم تدفن- راجع إلى إسقاط وجوب الإعادة، مثل قول سحنون، فوجه إعادة الصلاة عليها ما لم تدفن، أن من صلى إلى غير القبلة إنما يعيد في الوقت، فجعل حضور الجنازة كحضور الوقت، ودفنها كفواته. ووجه قول من لم ير الإعادة: أن إعادة الصلاة في الوقت إنما هي لإدراك فضيلة الوقت، فلما لم يكن للصلاة على الجنازة وقت معين، كان السلام منها كخروج وقتها، كما قال ابن القاسم فيمن طاف بثوب نجس، فعلم بذلك بعد إكمال الطواف أنه لا إعادة عليه، كمن صلى بثوب نجس فلم يعلم حتى خرج الوقت؛ وقيل: تعاد الصلاة عليها- وإن دفنت، ما لم ينقض النهار- إن كان صلي عليها نهارا، أو الليل- إن كان صلي عليها ليلا، وهو قول ابن نافع؛ فجعل بقية النهار أو الليل لها كالوقت القائم للصلاة المفروضة، فإن ترك الإعادة عليها حتى تدفن على قول من يرى أنها تعاد، تخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن الصلاة قد مضت فلا تعاد، والثاني: أن إعادتها قد وجبت، فيصلى عليها في قبرها؛ أو تُخرج ما لم يخش عليه التغير، كمن دفن دون أن يصلى عليه.

.مسألة القوم ينسون الصلاة على الجنازة فلا يذكرون حتى تدفن:

وسئل: عن القوم ينسون الصلاة على الجنازة فلا يذكرون حتى تدفن، أتنبش، أم يصلى عليها في قبرها؟ ويؤمهم وليها في الصلاة؟
قال ابن القاسم: إن كان عندما دفنوها، فأرى أن تُخرج ويُصلى عليها؛
وإن خافوا من ذلك تغييرا، صلوا عليها في قبرها.
وسئل ابن القاسم: عن الميت يجهل القوم الصلاة عليه، فيدفنونه ولم يصلوا عليه ولم يغسل، فيأتي قوم من المسلمين فيخبرون بذلك ساعتئذ؟
قال ابن القاسم: إن كان بحدثان أمره لم يتغير، ولم يخافوا عليه أن يكون قد دخله غير في قرب ذلك وحدثانه عندما دفنوه؛ رأيت أن يخرج ويغسل ويصلى عليه، وإن خافوا أن يكون قد تغير، رأيت أن يصلوا على قبره ويتركوه.
قال محمد بن رشد: ترك الغسل، والصلاة على الميت أو الغسل دون الصلاة، أو الصلاة دون الغسل- جهالة أو نسيانا، سواء في وجوب الحكم في ذلك؛ لأن الصلاة لا تجزئ دون غسل، فترك الغسل كترك الصلاة؛ وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم النسمة من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة إمام جنازة صلى عليها فذكر بعدما دخل في الصلاة أن عليه صلاة نسيها:

وسئل ابن القاسم: عن إمام جنازة صلى عليها، فذكر بعدما دخل في الصلاة أن عليه صلاة نسيها؛ كيف يصنع؟ أيمضي في الصلاة ولا يعيدها- وتجزئ الذين معه؟ أو يقطع ويقضي ما نسي ثم يصلي على الجنازة؟ وهل تحبس الجنازة عليه- إن كان إمام المصر، أو ولي الميت، أو ممن يبصر السنة إن كان مع جهال لا يبصرون السنة، حتى يصلي ما نسي ثم يعود فيصلي على الجنازة؟ وكيف الأمر فيها إن خيف على الجنازة الفساد؟
قال ابن القاسم: يمضي في الصلاة على الجنازة ولا يقطع.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنه يمضي في الصلاة ولا يقطع، بخلاف الإمام يذكر صلاة نسيها، أنه يقطع ويقطعون، أو يقطع ويستخلف من يتم بهم الصلاة- على اختلاف قوله في ذلك؛ لأن الترتيب فيما قل من الصلوات لازم، ولا ترتيب فيما بين صلاة الفريضة والصلاة على الجنازة، ومثل قول ابن القاسم هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وأصبغ، ولم يذكر في ذلك اختلافا، ولا فرق بين أن يكون في خناق من وقت الصلاة التي نسيها، أو لا يكون في خناق من وقتها، وذلك خلاف لأصله، والذي يأتي فيها على أصله، أن يخرج ويستخلف إذا كان في خناق من وقت الصلاة التي ذكرها.

.مسألة يقتله الإمام في المحاربة والحرابة أيصلي عليه الإمام ويغسل:

وسئل ابن القاسم: عمن أقيد منه في قصاص، أيصلي عليه الإمام؟ وعن الذي يقتله الإمام في المحاربة والحرابة، أيصلي عليه الإمام ويغسل؟ وكيف به إن رأى الإمام صلبه، أيقتله ويغسله ويصلي عليه، أم لا؟ وكيف الأمر فيه في القتل والصلب، أيصلب حيا ثم يقتل ويصلى عليه مصلوبا؟ أم لا يصلى عليه على حال؟
قال ابن القاسم: أما كل من قتل بالسيف أو قودا، وما قتل به من خنق أو غيره، فإنه يغسل ويصلى عليه، وأما الصلب فإنا سألنا مالكا عنه، فقال: ما سمعت فيه بشيء، وما علمت أنه كان من عمل من مضى. قال مالك: ولقد صلب عبد الملك بن مروان الحارث الذي تنبأ وطعنه هو بيده، قال ابن القاسم: ولم يصلبه إلا حيا، قال مالك: وأرى اجتهاد الإمام يسعه في ذلك على المحارب إذا أراد أن يقتله ويصلبه، أو يصلبه حيا، وسعة ذلك على أشنع ذلك، يريد على قدر جرمه.
قال ابن القاسم: فإن قتل قبل أن يصلب، رأيت أن يصلى عليه ثم يصلب؛ وأما الذي يصلب حيا فإني لم أسمع فيه بشيء، قيل لسحنون: فإذا صلبه الإمام حيا وقتله في خشبته، كيف يصلى عليه، قال: ينزل ويكفن ويصلي عليه أهله؟ قلت: ولا يعاد في الخشبة لما يريد الإمام من شنعة ذلك من فعله، ونكالا لغيره، فقال: لا أرى ذلك، وفيما فعل به ما يجزئ، وأرى إذا صلي عليه أن يدفن؛ وقول مالك يجزئه من هذا كله يصلي على كل من قتله الإمام.
قال محمد بن رشد: سأله عن صلاة الإمام على الذي يقتله في قود، أو على حرابة؛ فلم يجبه على ذلك، ومذهبه وروايته عن مالك: أنه لا يصلي عليه، ويصلي عليه أهله والناس؛ قيل: على سبيل الردع والزجر، كما يكره له ولمن سواه من أهل الفضل- الصلاة على أهل الكبائر والشر. وقيل: إنما لم يصل عليه الإمام من أجل أنه منتقم لله بقتله، فلا يكون شافعا إليه بالصلاة عليه؛ والتأويل الأول صحيح في المعنى، إلا أنه لا يسعد قوله لتفرقته فيه بين القتل وغيره، وهذا أسعد به، إلا أن فيه نظرا، إذ لا يمنع أن ينتقم لله منه بما شرعه من القتل في الدنيا، ويشفع له في ألا يعاقبه في الدار الأخرى؛ وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على الجهنية المرجومة. وذهب إلى ذلك محمد بن عبد الحكم.
وقال ابن نافع: يصلي الإمام على من قتله في قصاص، أو حد من الحدود، وليس لترك صلاة الإمام عليه وجه، ولا فرق بينه وبين غيره، ويحتمل أن يفرق على قول محمد بن عبد الحكم بين المرجوم والمقتول في حرابة أو قود، فإن الرجم كفارة للزنا بإجماع، وليس القتل في القود والحرابة بكفارة للذنب، بدليل قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. ولا اختلاف في أن المقتول في حد أو قود يصلي عليه الناس، إذ لا يخرج بما اجترمه مما أوجب عليه القتل عن الإسلام، لاسيما وقد قيل: إن القتل كفارة به؛ وأما المصلوب، فقيل: إنه يقتل ثم يصلب، وهو قول أشهب. وقيل: إن يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول ابن الماجشون. وجعل ابن القاسم الإمام مخيرا في ذلك باجتهاده على قدر ما رأى من جرمه.
وقول ابن الماجشون أظهر؛ لأن الله إنما خير في صفة قتله، ولو كان إنما خير في صلبه بعد قتله، لقال: أن يقتلوا ثم يصلبوا. فإذا قتل قبل أن يصلب، صلى عليه قبل أن يصلب. وأما إذا صلب حيا، فقيل: إنه لا يصلى عليه. وقيل: إنه يصف خلف الخشبة ويصلى عليه؛ اختلف في ذلك قول ابن الماجشون، وقيل: إنه ينزل عن الخشبة ويصلى عليه ويدفن، ولا يعاد في الخشبة؛ وقيل: بل يعاد فيها ليذعر بذلك أهل الفساد، اختلف في ذلك قول سحنون- وبالله التوفيق.

.مسألة عن أناس ثاروا على خارجي فظفر وقاتل أولئك الذين ثاروا عليه:

وسئل ابن القاسم: عن أناس ثاروا على خارجي، فظفر وقاتل أولئك الذين ثاروا عليه، فقتل بعض أصحابه وقتل من أولئك الذين ثاروا عليه وليس فيهم من يرى أنه أراد بصيرة ولا دينا أكثر من طلب الدنيا؛ أيصنع بقتلاهم ما يصنع بالشهداء؟ أم يغسلون ويصلى عليهم؟ أم ليس على من لم يهو هواهم ولم يشهد معهم- أن يغسلهم، ولا يصلي عليهم؟ وأنهم يقتتلون بين أحياء المسلمين، فيكون بين الفئتين قتلى؛ هل يجب غسلهم ودفنهم على أصحاب كل قرية؛ أم على من سمع ذلك أو رآهم من أهل ذلك المحوز أن يذهبوا فيغسلوهم ويصلوا عليهم؟ أم يصنع بهم ما يصنع بالشهداء؟
قال ابن القاسم: ليس هؤلاء مثل الشهداء، ويغسلون جميعا الظالم والمظلوم، ويصلى عليهم؛ وأما دفنهم، فإني أرى ذلك من الحق أن يدفنوا جميعا ولا يتركوا؛ لأنهم من المسلمين، يغسلون ويصلى عليهم ويدفنون؛ وأرى للسلطان أن يواريهم ولا يكره أحدا على ذلك.
وقد سئل مالك عن النصراني يموت مع المسلمين، فقال: يحفر ويوارى للذمة، فكيف للمسلمين.
وسئل ابن القاسم: عن طائفتين من الخوارج مثل الحرورية، والقدرية، ونحوهم، يقتتلون فيقتل من الفريقين قتلى، هل يجب على من بقي من الطائفتين دفن قتلاهم، والصلاة عليهم، وهل يدفنون بدمائهم كالشهداء، أو كيف بهم إن تركوهم ولم يدفنوهم؟ هل يجب على من كان قريبا منهم دفنهم، والصلاة عليهم؟
قال ابن القاسم: يغسلون ويصلى عليهم، وعلى من كان قريبا منهم أن يواريهم ويغسلهم ويصلي عليهم، وليس بواجب، ولكني أستحسنه.
وسئل ابن القاسم: عن الطائفتين من المسلمين يقتتلان، فيقتل بينهما قتلى، أيصلى عليهم أم لا؟ وهل يدفنون بدمائهم، أم يغسلون؟ وكيف إن كانت إحداهما باغية والأخرى عادلة؟
قال: وجه ما سمعنا من مالك أنه يغسل جميع المسلمين، ويصلي عليهم- كان ظالما أو مظلوما؛ لأنه سمعته يقول في الذي يقتل نفسه، إنه يغسل ويصلى عليه، وإثمه على نفسه؛ وليس أحد في الظلم أظلم ممن قتل نفسه، وكل القتلى عند مالك يغسلون ويصلى عليهم، إلا الشهيد في سبيل الله، الذي يموت في المعركة، فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه ولا تجرد له؛ قال مالك: وما علمت أنه ينزع منه شيء.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها صحاح بينة في المعنى والحجة، فلا إشكال فيها، ولا اختلاف في المذهب في شيء منها؛ إلا أنه قد اختلف التأويل على مالك في قوله في أهل الأهواء والبدع، إنهم لا ينكحون ولا ينكح إليهم ولا يسلم عليهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يشهد جنائزهم، فقيل: إن ذلك على وجه التأديب لهم، والكراهة لمخالطتهم، وقيل: إن ذلك لأنهم عنده كفار، بدليل قوله في سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين على ما آية أشد على أهل الأهواء وأهل البدع، من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]... الآية. قال: فأي آية أبين من هذه؟ ورأيته يتأولها في أهل الأهواء، والتأويل الأول أولى؛ وقد مضى من قوله في رسم الجنائز والصيد، ما سمعت أن أحدا ممن يصلي القبلة ينهى عن الصلاة عليه، ومضى من كلامنا في هذا المعنى في رسم الصلاة الثاني، من سماع أشهب من كتاب الصلاة- ما فيه شفاء.

.مسألة تغطية القبر بالثوب على المرأة:

وسئل ابن القاسم: عن تغطية القبر بالثوب على المرأة حين تدفن، أواجب ذلك على الناس؟ ومن أولى من يفعل ذلك؟ ومن أولى من يدخل القبر لدفن المرأة في قرابتها؟ وكيف إن لم يكن لها قرابة؟
قال ابن القاسم: زوجها أولى الناس بها من أبيها وولدها؛ وأما الثوب فأراه حسنا أن يعمل به؛ لأنه ستر لها ألا يرى منها شيء من خلفها، فإن لم يكن قرابة من ذوي محرم، كان أهل الفضل- عندي- وأهل الصلاح أفضل في دخولها.
قال محمد بن رشد: أما استحسانه لستر قبر المرأة بالثوب عند الدفن فبين في المعنى، وأما قوله: إن أولى الناس بإدخالها في قبرها زوجها، فإنه صحيح على أصله في أن له أن يغسلها، وأنه أحق بذلك من قرابتها من النساء، وخالف في ذلك أهل العراق، وتعلقوا بما روي عن أنس بن مالك قال: ماتت إحدى بنات النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يدخل القبر أحد قارف أهله الليلة»؛ فلم يدخل زوجها، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن المعنى فيه أنه هو الذي كانت المقارفة بينه وبين أهله تلك الليلة، فعلم ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكره أن يدخل قبرها؛ وأن يواجهه بذلك، إذ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يواجه أحدا بما يكره، وإنما كان يقول ذلك تعريضا لأخلاقه الكريمة، فامتنع زوجها عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من الدخول في قبرها، لما سمعه من قوله، وفهمه من إرادته- وبالله التوفيق.

.مسألة الميت يحرف على القبلة فيوضع على شقه الأيسر ثم يعلم بذلك قوم يعرفون السنة:

وسئل ابن القاسم: عن الميت يحرف على القبلة فيوضع على شقه الأيسر، ثم يعلم بذلك قوم يعرفون السنة ساعتئذ؛ كيف الأمر فيه؟
قال ابن القاسم: إن كانوا لم يواروه بحدثان ذلك، وألقوا عليه شيئا يسيرا، فأرى أن يحول ويوجه إلى القبلة؛ وإن كانوا دفنوه وفرغوا من دفنه، فليترك ولا ينبش.
قال محمد بن رشد: إنما يوجه الميت في لحده إلى القبلة؛ لأنها أشرف الجهات، إذ رضيها الله تعالى قبلة لعباده في صلواتهم، وليس ذلك بواجب فرضا، لقول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. ولذلك لم ير ابن القاسم رَحِمَهُ اللَّهُ أن ينبش الميت إذا كانوا قد فرغوا من دفنه، لما في ذلك من كشفه لمعنى غير واجب.

.مسألة يسبق الجنازة إلى المصلى أيجلس حتى يؤتى بها:

وسئل ابن القاسم: عن الذي يسبق الجنازة إلى المصلى، أيجلس حتى يؤتى بها، أم يقوم؟ وكيف إن سبقها الرجل إلى القبر، أيجلس قبل أن توضع على الأرض أم لا؟
فقال: قال مالك: يجلس ولا بأس به في هذا كله.
قال محمد بن رشد: روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى توضع أو تخلفكم». وروي عنه صلى الله عليه وسلم «إذ مر عليه بجنازة فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: أليس ميتا؟ أو أليس نفسا؟» وروي عنه- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد».
فكان القيام للجنائز مأمورا به في ثلاثة مواضع: أحدها: من كان جالسا فمرت به أن يقوم حتى يخلفه. والثاني: من اتبع جنازة ألا يجلس حتى توضع. والثالث: من سبق الجنازة إلى المقبرة فقعد ينتظرها، أن يقوم إذا رآها حتى توضع؛ ثم نسخ ذلك كله بما روي من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوم في الجنائز، ثم جلس، وأمرهم بالجلوس». وروي أنه فعل ذلك مرة، وكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نهى انتهى. وأما القيام على الجنازة حتى تدفن فلا بأس به، وليس ذلك مما نسخ؛ روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام على قبر حتى دفن. وقد قيل: إنه منسوخ وليس ذلك بصحيح. روي أن علي بن أبي طالب قام على قبر المكفف، فقيل له: ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل لأخينا قيامنا على قبره، وهو الذي روى النسخ؛ فدل ذلك على أنه لم يدخل فيه عنده القيام على القبر- عند الدفن وبعده- والله أعلم. وذهب ابن حبيب إلى أنه إنما نسخ من القيام في الجنائز الوجوب فيمن جلس في سعة، ومن قام فمأجور، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة اللوح واللبن والقصب توضع على اللحد:

وسئل ابن القاسم: عن اللوح واللبن والقصب توضع على اللحد، ويجعل الرجل في تابوت من خشب، ويدفن فيه أو يبنى عليه الآجر؛ فقال ابن القاسم: أما التابوت فأكرهه، ولا يعجبني أن يدفن فيه أحد، وأما اللبن فهي السنة والشأن، وأما الألواح فلا أرى ذلك إلا ألا يوجد لبن ولا آجر.
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات ولا ثرى- مكان- ولا آجر، والصواب: ولا آجر؛ لأن الأفضل فيما يجعل على الميت في قبره اللبن، ثم الألواح، ثم القراميد، ثم الآجر، ثم الحجارة، ثم القصب، ثم سن التراب، وسن التراب خير من التابوت، قال ذلك ابن حبيب. وقد روي عن ابن القاسم وأشهب: أنه لا بأس أن يجعل على اللحد اللبن، أو القصب، أو اللوح، وذلك خفيف. وروي عن سحنون أنه قال: ما سمعت حدا كره اللوح إلا ابن القاسم.

.مسألة قبة النعش التي تصنع للنساء:

وسئل ابن القاسم: عن قبة النعش التي تصنع للنساء، أواجب ذلك لكل امرأة بلغت المحيض أم لا؟ وكيف المرأة التي تموت في السفر، هل تستر بقبة كما يصنع أهل الحضر؟ أم كيف يصنع بها إذا وضعت على سريرها؟ وكم حد طول قبة النعش الذي لا يجوز أن يرفع فوقه؟
قال ابن القاسم: قد فعله عمر بن الخطاب. وأخبرني مالك: أن أول من فعل به ذلك زينب زوج النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. فقال عمر للتي فعلته بها: سترتها سترك الله. فقد استحسنه عمر، فأرى ألا يترك في سفر ولا حضر، وهو يقدر على ذلك؟ وأما حد طوله فليس فيه حد إلا ما وارى، وأكره ما أحدث الناس فيه من المباهاة والفخر من طول ذلك، حتى صار عندهم زينة من الزينة، فأنا أكره ذلك.
قال محمد بن رشد: ليس في هذه المسألة معنى يشكل، فيحتاج إلى التكلم عليه، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة نفر من المسلمين وفيهم مشرك وقع عليه بيت فهلكوا كيف يغسلون:

وسئل ابن القاسم: عن نفر من المسلمين- وفيهم رجل مشرك- وقع عليهم بيت فهلكوا، أيغسلون جميعا ويصلى عليهم؟
فقال ابن القاسم: ما سمعت من مالك فيه شيئا، وأرى أن يغسلوا ويصلى عليهم، وتكون نيتهم في الصلاة على المسلمين منهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، وإنما الاختلاف إذا كان نفر من المشركين وفيهم رجل مسلم لا يعرف بعينه، فقال أشهب: إنه لا يصلى عليهم؛ وقال سحنون: إنهم يغسلون ويصلى عليهم، وتكون نيتهم في الصلاة على المسلم منهم، ولا تترك حرمة مسلم تضيع، هكذا وقع هذا الاختلاف في سماع ابن غانم من بعض الروايات.

.مسألة الميت يوجد بفلاة من الأرض ولا يدرى أمسلم هو أو كافر:

وسئل ابن القاسم: عن الميت يوجد بفلاة من الأرض، ولا يدرى أمسلم هو أو كافر؟ أيغسل ويكفن ويصلى عليه؟ أو الميت يوجد أحد شقيه بلا رأس، أو يوجد أحد شقيه برأسه؟
فقال ابن القاسم: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وأرى أن يوارى ولا يصلى عليه، ويوارى بلا غسل؟ وكذلك لو وجد في مدينة من المدائن ميت في زقاق، ولا يدرى أمسلم هو أو كافر.
قال محمد بن رشد: وإن كان مختونا، إذ قد علم أن اليهود يختنون أولادهم، وقال ابن حبيب: وإن لم يدر إن كان مسلما أو نصرانيا. فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وإن كان مختونا، إذ من النصارى من يختتن. وقال ابن وهب في سماع عبد الملك: أنه يجر يده على ذكره، فإن كان مختونا غسله وصلى عليه، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة يصلون على الجنازة فيضعون الرأس موضع الرجلين:

وسئل ابن القاسم: عن القوم يصلون على الجنازة فيضعون الرأس موضع الرجلين، ثم يعلمون بذلك قبل دفنها، أيعيدون الصلاة عليها؟
قال ابن القاسم: ما أرى ذلك، وصلاتهم مجزئة عنهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه قد صلى عليه وهو أمامه إلى القبلة، فالأمر في ذلك واسع، وكذلك لو أخطأ في ترتيب الجنائز للصلاة عليها، فقدم النساء على الرجال والصغار على الكبار، لمضت الصلاة، ولم تجب إعادتها، وإن علم بذلك بالقرب قبل الدفن.

.مسألة أدركوا إمام جنازة حين سلم أتحبس لهم الجنازة:

وسئل ابن القاسم: عن قوم أدركوا إمام جنازة حين سلم، أتحبس لهم الجنازة حتى يصلوا عليها فرادى، أم لا تحبس إذا كان قد صلي عليها؟
قال ابن القاسم: لا تحبس ولا تعاد الصلاة عليها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم الجنائز والصيد والذبائح في موضعين، ومضى الكلام عليها في الموضع الأول منهما، فلا وجه لإعادته هنا.

.مسألة الميت لا يوجد له رأس أو يوجد جسده تام أيغسل ويصلى عليه:

وسئل ابن القاسم: عن الميت لا يوجد له رأس، أو يوجد جسده تام، أيغسل ويصلى عليه؟ أو الميت يوجد أحد شقيه بلا رأس، أو يوجد أحد شقيه برأسه، أو يوجد صدره برأسه، أو توجد فخذاه من السرة إلى أسفل، أو يوجد يد أو رجل بائنة من الجسد؟ أيصلى عليه على هذه الصفة؟ وهل يجب دفن شيء من ذلك على من وجده؟ وكيف إن وجد رأسه منفردا من الجسد ولم يوجد غيره؟ أو وجد أعضاؤه متفرقة بغير رأس؟ أو وجد الرأس؟ أيجمعها ويصلي عليها؟
فقال ابن القاسم: قال لي مالك: لا يصلى على يد ولا فخذ، ويصلى على الجسد- وإن لم يكن فيه رأس- فقلنا لمالك: فما حد ذلك؟ فقال: إذا وجد جله أو أكثره، صلي عليه. وأما يد، أو رأس، أو فخذ، فإني أرى أن يدفن ولا يصلى عليه. وأما ما ذكرت إذا وجد متقطعا، فإنه ينظر إلى ما وجد من ذلك، فإن كان هو جله أو كله، فلا يبالى كان متقطعا أو مجتمعا، فإنه يغسل ويصلى عليه؛ وإن كان ذلك يسيرا حتى يكون مثل الرجل أو اليد أو الرأس لم يصل عليه، ولا يغسل؛ لأني لا أرى أن يغسل إلا ما كان منه يصلى عليه، وإن كان يسيرا لم يصل عليه. وإن وجد متشدخا لا يستطاع أن يغسل، صب عليه الماء صبا، وكذلك صاحب الجدري وما أشبهه من القروح التي إذا مس سلخ، فإنه يصب عليه الماء ويترفق به، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة: إنه لا يصلى على يد، ولا على رجل، ولا على رأس، ولا يصلى إلا على جل الجسد. قال هاهنا: وجد مجتمعا أو متفرقا. وقال في كتاب ابن حبيب: إذا وجد مجتمعا؛ والمعنى في ذلك عند مالك: أنه لا يصلى على غائب، فإذا وجد بعض الميت وغاب بعضه، جعل القليل تبعا للجل مما غاب أو حضر، ولم يجعل الأقل تبعا للأكثر حتى يكون الأكثر هو الجل، وإن أدى ذلك إلى أن لا يصلى عليه أصلا؛ إذ قد يوجد منه أكثر من النصف ودون الجل فلا يصلى عليه، ثم إن وجدت بقيته لم يصل عليها- كما قال أشهب: إنه إذا وجد أحد شقيه برأسه لم يصل عليه، والأظهر أن يجعل الأقل منه تبعا للأكثر فيصلى عليه؛ لأنه إذا صلي عليه وهو أكثر من النصف، فقد أمر أن يصلى على الباقي منه- إذا وجد، وأن يصلى على النصف أيضا إذا وجد؛ لأنه إن لم يصل عليه- وكان من وجد النصف الثاني لم يصل عليه أيضا، بقي الميت بلا صلاة؛ فلأن يصلى عليه مرتين، أولى من أن لا يصلى عليه؛ إلا أنهم لم يعتبروا شيئا من ذلك إلا بقاءه بلا صلاة، ولا الصلاة عليه مرتين، فقد روي عن ابن الماجشون: أنه يصلى على الرأس؛ لأن فيه أكثر الديات، فإذا كان عنده يصلى على الرأس، ويصلى على البدن دون رأس، فلم تبق الصلاة عليه مرتين. فإنما العلة عند مالك وأصحابه في هذه المسألة- ما ذكرناه من أن الصلاة لا تجوز على غائب لا ما سوى ذلك، واستخفوا إذا غاب منه اليسير، الثلث فدون، إلا ما كان من قول ابن الماجشون: إنه إذا وجد الرأس يصلى عليه؛ لأن فيه أكثر الديات، فمن علل مذهب مالك في أنه لا يصلى إلا على جل الجسد بإبقاء الصلاة عليه مرتين، أو بقائه دون صلاة فقد أخطأ؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة يرى أن يصلى على ما وجد منه من يد أو رجل، وإن لم يوجد منه شيء وعلم أنه قد مات غريقا، أو أكلته السباع، صلي عليه أيضا عنده، وحجته صلاة النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- على النجاشي بالمدينة- وهو ميت بأرض الحبشة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب.
واحتج من نصر قول مالك بما روي عن عمران بن حصين، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه». قال: ونحن نرى أن الجنازة قد أتت، قال: فصففنا فصلينا عليه، وإنما مات بالحبشة فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل المدينة. قال: فإذا كان الله قد حمله إلى المدينة بلطيف قدرته- حتى وضعه بين يديه بالمصلى فصلى عليه، بطل تعلق عبد العزيز بن أبي سلمة بالحديث، وفي خروج النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إلى المصلى للصلاة عليه، دليل على أنه كان بها؛ إذ لو كان بمكانه بأرض الحبشة، لم يكن لخروجه إلى المصلى للصلاة عليه معنى.
واحتج أيضا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصل عليه بعد دفنه- مع ما في الصلاة عليه من عظيم الأجر، والحجة الأولى أظهر، إذ قد قيل: إنما لم يصل على النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بعد ذلك، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يتخذ قبره مسجدا، وقد نهى عن ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.